المادة    
ثم ينتقل شيخ الإسلام رحمه الله إلى موضوع آخر يتعلق بمواقف الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيقول رحمه الله:
"ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يعرض به المرء للفتنة؛ صار في الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة".
ونحن أولى الناس بأن نداوي أمراض قلوبنا.
فمن الشبهات والفتن التي يتعرض لها الدعاة: أن يقول الإنسان: أترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طلباً للسلامة من الفتن.
  1. ترك الدعوة والجهاد سقوط في الفتنة

    يقول: "كما قال عن المنافقين: ((وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا)[التوبة:49] وقد ذكر في التفسير أنها نزلت في الجد بن قيس لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتجهز لغزو الروم".
    في غزوة تبوك أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين كافة أن يتجهزوا، فخرجوا ولم يتخلف إلا المنافقون أو من أعذرهم الله، إلا الثلاثة الذين خلفوا، وليس معنى خلفوا: تخلفوا عن المعركة ولم يذهبوا إليها، وإن كان الكلام في التخلف، وإنما معناه: أُخِّروا وأُجِّلوا، لأن المنافقين كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث كعب بن مالك الطويل- فيحلفون له، فيصدقهم ويعفو عنهم، ويكلهم إلى الله، أما أولئك فقد خلفوا، أي: أُنظِروا وأرجئ أمرهم حتى أنزل الله توبتهم بعد خمسين ليلة.
    وقد قال ابن عباس رضي الله عنه في هذه السورة: إنها الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين حتى أتت على جل صفاتهم وأحوالهم. قال تعالى: ((وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي))[التوبة:49] هذا فقه المنافقين، وقد ذكره الله تعالى في القرآن حتى نعتبر.
    يقول شيخ الإسلام: "وأظنه قال: {هل لك في نساء بني الأصفر، فقال -أي: الجد بن قيس -: يا رسول الله! إني رجل لا أصبر عن النساء، وإني أخاف الفتنة بنساء بني الأصفر، فائذن لي ولا تفتني} أي: أنه مستعد للجهاد، وقادر عليه، لكن عذره أنه إذا رأى بنات الروم؛ لم يصبر عنهن فيخشى أن يقع في الفتنة، فكأنه لا يريد إلا بقاء هذا الإيمان، وبقاء القرب من الله سبحانه وتعالى بأن لا يقع في شهوة النساء التي قد تؤثر وتضعف إيمانه ودينه.
    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن قصة الجد : "إنه طلب القعود ليسلم من فتنة النساء، فلا يفتتن بهن، فيحتاج إلى الاحتراز من المحذور ومجاهدة نفسه عنه، فيتعذب بذلك، أو يواقعه فيأثم، فإن من رأى الصور الجميلة وأحبها، فإن لم يتمكن منها إما لتحريم الشارع، وإما للعجز عنها؛ يعذب قلبه، وإن قدر عليها وفعل المحذور هلك".
    وهذا حال من يسمون أنفسهم بالعشاق، والذين نسمع صرخاتهم وآهاتهم وأناتهم في كل حين، ولهذا لما سئل الإمام مالك رحمه الله عن الغناء قال: [[ما أظن عاقلاً يصنع بنفسه هكذا]] لترنح المغنين وتمايلهم.
    فيقول: إذا غلب الهوى فحصل هذا العشق لا يخلو من أمرين: إما أن يأتي الإنسان شهوته ومراده فيقع في الحرام، وإما أن يحرم منها، فيقع في الألم والعذاب.
    يقول: "فهذا وجه قوله: (ولا تفتني) قال الله تعالى: ((أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا))[التوبة:49] يقول: نفس إعراضه عن الجهاد الواجب ونكوله عنه، وضعف إيمانه ومرض قلبه الذي زين له ترك الجهاد: فتنة عظيمة قد سقط فيها" أي أن حبه للإخلاد إلى الدنيا وترك الجهاد والتخلف بنفسه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة عظيمة سقط ووقع فيها.
    قال: "فكيف يطلب التخلص من فتنة صغيرة لم تصبه بوقوعه في فتنة عظيمة قد أصابته؟!" أي: أحاطت به وانعكس عليه الأمـر، يقول: "والله يقـول: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ))[البقرة:193]، فمن ترك القتال الذي أمر الله به لئلا تكون فتنة؛ فهو في الفتنة ساقط بما وقع فيه من ريب قلبه، ومرض فؤاده، وتركه ما أمر الله به من الجهاد".
    ولهذا لما جاء التتار، قال بعض الناس: كيف نحاربهم وهم يقولون: (لا إله إلا الله)؟ فأفتاهم شيخ الإسلام ومن جملة ما قال: "لو رأيتموني معهم والمصحف معلق في عنقي؛ فاضربوا عنقي" يقول لهم ذلك حتى يستيقنوا أن الفتنة هي في ترك قتال أولئك، ولا يقولوا: هذا قتال فتنة بين المسلمين، فهم ليسوا مسلمين؛ لأنهم يحكمون الياسق الذي وضعه جنكيز خان، ويقولون كما يقول الغربيون اليوم: رجلان عظيمان محمد وجنكيز خان، فجعلوا محمداً صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم وخير البرية مثل جنكيز خان، وقالوا: نحن مسلمون، نشهد أن لا إله إلا الله..!
    فهؤلاء لا يقبل منهم هذا مع بقائهم على هذا الولاء لذلك المشرك، وتحكيم ما أقره وكتبه لهم، فقال شيخ الإسلام : ليس هذا من قتال الفتنة ولا من قتال البغاة، هذا من الجهاد الواجب لأولئك الخارجين على الشريعة، فلو رأيتموني معهم والمصحف معلق بعنقي، فاضربوا عنقي.
    فالفتنة: هي ترك القتال عندما يكون في القتال إعلاء لكلمة الله؛ لأن الله تعالى يقول: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ))[البقرة:193] والفتنة: الشرك، كما فسرها الصحابة رضوان الله عليهم.
  2. الفرق بين المفاسد الحقيقية والمفاسد المتوهمة

    يقول: "فتدبر هذا، فإن هذا مقام خطر، فإن الناس هنا ثلاثة أقسام: قسم يأمرون وينهون ويقاتلون؛ طلباً لإزالة الفتنة التي زعموا، ويكون فعلهم ذلك أعظم فتنة، كالمقتتلين في الفتنة الواقعة بين الأمة" فالفتن إذا وقعت بين المسلمين وتقاتلوا من أجل الملك والسلطان، لا لإعلاء كلمة الله، ولا لإعزاز دينه، ولا لإحقاق الحق، فهؤلاء في الحقيقة يتقاتلون ويزعمون أنهم بقتالهم هذا يزيلون الفتنة وهم قد وقعوا فيها؛ لأن القتال من أعظم الفتن، بل هو أساس كل فتنة بين المسلمين، وأساس كل فساد وقطع للأرحام، ويترتب على ذلك مصائب لا يعلمها إلا الله.
    ثم يقول: "وأقوام ينكلون عن الأمر والنهي والقتال الذي يكون به الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا؛ لئلا يفتنوا، وهم قد سقطوا في الفتنة"، أي: هناك في المقابل المنافقون الذين يقرون الشرك والكفر والإلحاد ومخالفة دين الله عز وجل، فإذا دعوا للإنكار وإلى الجهاد قالوا: نخاف الفتنة، فهؤلاء في الفتنة سقطوا ولم يخلصوا منها، يقول: "وهذه الفتنة المذكورة في سورة (براءة) دخل فيها الافتتان بالصور الجميلة؛ فإنها سبب نزول الآية" الصورة المقصود بها من كلام العلماء هي: المظهر، فصورة أي إنسان تعني مظهره، فالافتتان بالصور الجميلة يعني العشق، وهو المراد بهذه الآية.
    قال: "وهذه حال كثير من المتدينين، يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهي وجهاد يكون به الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا، لئلا يفتنوا بجنس الشهوات، وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فروا منه"، أي أن بعض المتدينين يكون حاله ذلك، فيترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل، والدعوة إلى الله، ويقول: أخشى من الفتن، وقد تكون الفتن متوهمة غير حقيقية، فيكون تركه لذلك من أعظم الفتن.
    وهذه من المداخل الشيطانية الخبيثة، فالإنسان يجب عليه أن يتقي الله ويتحرز من الرياء والغرور والإعجاب، وهذه أمراض خطيرة تقضي على العلم والعمل، لكن إذا أعطاك الله علماً، وفقهك في شيء من الدين، ثم طلب منك أن تدعو إلى الله فقلت: أخشى الفتنة، وأخشى أن يفتتن الناس بي، وهذا هو المثل الذي يريده شيخ الإسلام، فهو يقول: إن الفتنة في الحقيقة هي كتم ما أنزل الله وكتم ما أمر الله، فإقرار الانحراف -إن كان في العقائد أو في الأعمال- والسكوت عليه وعدم تبليغ ما أمر الله بيانه للناس هذا هو الفتنة الكبرى، والواجب في هذه الحالة أن تتصدر وأن تأمر وتنهى وتعلم وتحذر.
    فلو كان هذا الرجل المنافق وأمثاله يخافون من فتنة بنات الروم: فما الواجب عليهم شرعاً؟
    نقول: اخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رأيتم بنات الروم، فغضوا أبصاركم، فلا تُترَكُ الطاعة من أجل احتمال فتنة، ولكن تقام الطاعة، وتجتنب أسباب المعصية، فإن كنت تريد أن تعمل في الدعوة إلى الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأقدم وافعل الطاعة واؤمر وانه واصبر، وفي الوقت نفسه احذر مما يباغتك به الشيطان من الشهوات التي تسقطك فيما حرم الله، فالواجب عليك الجهاد بكلا الحالين.
    يقول: "وإنما الواجب عليهم القيام بالواجب وترك المحذور، وهما متلازمان، وإنما تركوا ذلك لكون نفوسهم لا تطاوعهم إلا فعلهما جميعاً أو تركهما جميعاً مثل كثير ممن يحب الرئاسة أو المال وشهوات الغي؛ فإنه إذا فعل ما وجب عليه من أمر ونهي وجهاد وإمارة ونحو ذلك، فلابد أن يفعل شيئاً من المحظورات"، والمقصود: أن من كان لديه المقدرة والأهلية، ثم بمجرد احتمال أن يأتيه الشيطان أو يسقط في الفتنة يترك الخير، ويصده الشيطان عن الحق ويحرمه، ويحرم المسلمين من أمره ونهيه وجهـاده، يقول: "فالواجب عليه أن ينظر أغلب الأمرين، فإن كان المأمور أعظم أجراً من ترك ذلك المحظور؛ لم يترك ذلك لما يخاف أن يقترن به ما هو دونه في المفسدة".
    فمثلاً: قائد من القواد جريء وشجاع، لكنه يخشى أن يظلم الجنود ويجور عليهم، فالمصلحة تكون في أن يتولاها؛ لأن مفسدة جوره على الجند أخف من مفسدة أن يسيطر علينا الكفار ويغزونا، ولهذا اشترط العلماء في اختيار الخليفة أو قائد الجند مراعاة مصلحة الأمة؛ فإن كانت الأمة في حالة حرب وقتال، فإنه يختار الأشجع والأجرأ والأدهى والأحكم، لا الأتقى والأضعف قوة؛ لأن الأمة حينئذ تحتاج إلى القوة، وإن كانت الأمة في حالة سلم وموادعة ومهادنة، فلا يختار الأشجع والأجرأ، ولكن يختار الأتقى، وإن كان أضعف قوة وأقل جرأة؛ فديننا بني على الحكمة والمصلحة.
  3. الأمر والنهي من ضرورات الاجتماع الإنساني

    يقول: "وكل بشر على وجه الأرض فلابد له من أمر ونهي، ولابد أن يأمر وينهى" فلا يقل أحد: أريد أن أترك الأمر والنهي؛ فذلك غير ممكن؛ فكل بشر لابد أن يحب أشياء ويكره أشياء، ولابد أن يأمر بأشياء وينهى عن أشياء.
    ومن ينظر في أحوال الدول الغربية، يعجب من الصحافة هناك؛ فهي تنتقد السلطة الإدارية والتنفيذية، وتنتقد كل الأوضاع حتى القوانين؛ فكل مجتمع لن يقوم إلا على أمر ونهي.
    بل إن كل نفس أيضاً لا تقوم إلا بذلك؛ يقول رحمه الله: "حتى لو أنه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها: إما بمعروف وإما بمنكر، كما قال تعالى: ((إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ))[يوسف:53] فإن الأمر هو طلب الفعل وإرادته، والنهي طلب الترك وإرادته، ولابد لكل حي من إرادة وطلب في نفسه يقتضي بهما فعل نفسه، ويقتضي بهما فعل غيره إذا أمكن ذلك؛ فإن الإنسان حي يتحرك بإرادته..." إلى أن يقول: "وإذا كان الأمر والنهي من لوازم وجود بني آدم؛ فمن لم يأمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله، وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، ويؤمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله، ويُنه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، وإلا فلابد أن يأمر وينهى، ويؤمر ويُنهى، إما بما يضاد ذلك" أي: فيأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، ويؤمر بالمنكر وينهى عن المعروف "وإما بما يشترك فيه الحق الذي أنزل الله بالباطل الذي لم ينزله الله، وإذا اتخذ ذلك ديناً كان ديناً مبتدعاً" فلابد من إحدى حالتين؛ إما أن يكون الأمر والنهي وفق ما شرع الله، وإما أن يكون الأمر والنهي خلاف ما شرع الله، ولذلك نجد الناس إما أن يقولوا: هذا حرام وهذا حلال، وإما أن يقولوا: هذا مخالف للنظام، وهذا خارج عن القانون، وهذا متعد، وهذا لابد أن يردع ويهجر.. ولكن الخير والهدى والاستقامة والصلاح ودوام النعمة في طاعة الله وفي الالتزام بأمر الله والتمسك بسنة رسول الله، وذلك بأن يكون الأمر والنهي تابعاً وموافقاً لما شرعه الله تبارك وتعالى.
    يقول : "وهذا كما أن كل بشر فإنه متحرك بإرادته؛ همام حارث؛ فمن لم تكن نيته صالحة، وعمله عملاً صالحاً لوجه الله، وإلا كان عملاً فاسداً أو لغير وجه الله، وهو الباطل، كما قال تعالى: ((إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى))[الليل:4] وهذه الأعمال كلها باطلة من جنس أعمال الكفار..." إلى أن يقول: "وقد أمر الله في كتابه بطاعته وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر من المؤمنين، كما قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا))[النساء:59].
    و(أولو الأمر) أصحاب الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة، وأهل العلم والكلام؛ فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء، والأمراء؛ فإذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس؛ كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه للأحمسية لما سألته: ما بقاؤنا على هذا الأمر؟ قال: [[ما استقامت لكم أئمتكم]]، ويدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان.. وكل من كان متبوعاً فإنه من أولي الأمر" أي: فكل من كان له شأن أو سلطة في أمر من الأمور، فهو ولي في ذلك الأمر بحسبه، حتى أن الرجل راع في أهل بيته، كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من أولي الأمر في البيت، والمدرس ومدير المدرسة من أولي الأمر في المدرسة، فيطاع بالمعروف في المدرسة، والمدير من أولي الأمر في الإدارة، فيطاع بالمعروف في الإدارة، فعليه جزء من المسئولية التي على ولي الأمر.
    وأعظم ولاة الأمور هم الأمراء -الحكام عموماً- والعلماء؛ فهذان الصنفان إذا صلحا صلح الناس جميعاً، وإذا فسدا فسد الناس جميعاً.